الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
الجزء الثامن والعشرون {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها تنويهاً بالمرأة التي وجَّهت شَكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصّر في طلب العدل في حقها وحق بَنِيها. ولم ترضَ بعُنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصّر ولا روية، وتعليماً لنساء الأمة الإِسلامية ورجالها واجب الذود عن مصالحها. تلك هي قضية المرأة خولة أو خُويلة مصغراً أو جميلة بنت مالك بن ثعلبة أو بنت دُلَيْج (مصغراً) العَوْفية. وربما قالوا: الخزرجية، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج، من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي أخي عُبادة بن الصامت. قيل: إن سبب حدوث هذه القضية أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت أرادها فأبت فغضب وكان قد ساء خلقه فقال لها: أنتتِ عليّ كظهر أمي. قال ابن عباس: وكان هذا في الجاهلية تحريماً للمرأة مؤبَّداً (أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره الناس عليه فاستقرّ مشروعاً) فجاءت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، فقال لها: حَرُمتتِ عليه، فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا، فقال: «ما عندي في أمرككِ شيء»، فقالت: يا رسول الله ما ذكَر طلاقاً. وإنما هو أبو وَلَدِي وأحب الناس إليّ فقال: «حَرُمتتِ عليه». فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي. كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حَرُمتتِ عليه» هتفت وشكت إلى الله، فأنزل الله هذه الآيات. وهذا الحديث رواه داود في كتاب الظهار مجملاً بسند صحيح. وأما تفصيل قصته فمن روايات أهل التفسير وأسباب النزول يزيد بعضها على بعض، وقد استقصاها الطبري بأسانيده عن ابن عباس وقتادة وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وكلها متفقة على أن المرأة المجادِلة خولة أو خويلة أو جميلة، وعلى أن زوجها أَوس بن الصامت. وروى الترمذي وأبو داود حديثاً في الظهار في قصة أخرى منسوبة إلى سَلمة بن صخر البَيَاضي تشبه قصة خولة أنه ظاهرَ من امرأته ظهاراً موقناً برمضان ثم غلبته نفسهُ فَوطئها واستفتى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة، إلاّ أنهما لم يذكرا أن الآية نزلت في ذلك. وإنما نسب ابنُ عطية إلى النقاش أن الآية نزلت بسبب قصة سلمة ولا يعرف هذا لغيره. وَأحسب أن ذلك اختلاط بين القصتين وكيف يصح ذلك وصريح الآية أن السائلة امرأة والذي في حديث سلمة بن صخر أنه هو السائل. و {قد} أصله حرف تحقيق للخبر، فهو من حروف توكيد الخبر ولكن الخطاب هنا للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو لا يخامره تردد في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها. فتعيّن أن حرف {قد} هنا مستعمل في التوقع، أي الإِشعار بحصول ما يتوقعه السامع. قال في «الكشاف»: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادِلة كانا يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها ا ه. ومعنى التوقع الذي يؤذن به حرف {قد} في مثل هذا يؤول إلى تنزيل الذي يَتوقع حصول أمر لشدة استشرافه له منزلةَ المتردد الطالب فتحقيق الخبر من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لنكتة كما قالوا في تأكيد الخبر ب (إنَّ) في قوله تعالى: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [المؤمنون: 27] إنه جُعل غير السائل كالسائل حيث قُدم إليه ما يلوِّح إليه بالخبر فيستشرف له استشراف الطالب المتردد. ولهذا جزم الرضيّ في «شرح الكافية» بأن {قَد} لا بدّ فيها من معنى التحقيق. ثم يضاف إليه في بعض المواضع معان أخرى. والسماع في قوله: {سمع} معناه الاستجابة للمطلوب وقبُوله بقرينة دخول {قد} التوقعية عليه فإن المتوقَّع هو استجابة شكواها. وقد استُحضرت المرأة بعنوان الصلة تنويهاً بمجادلتها وشكواها لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها وبأبنائها وبزوجها. والمجادلة: الاحتجاج والاستدلال، وتقدمت في قوله: {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} في سورة [الأنفال: 6]. والاشتكاء: مبالغة في الشكوى وهي ذكر ما آذاه، يقال: شكا وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة. اشتكى، والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضرّ الذي يشتكي منه بحكم أو نصر أو إشارة بحيلةِ خلاص. وتعلق فعل التجادل بالكون في زوجها على نية مضاف معلوم من المقام في مثل هذا بكثرة: أي في شأن زوجها وقضيته كقوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74]، وقوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا} [المؤمنون: 27] وهو من المسألة الملقبة في «أصول الفقه» بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعْيان في نحو {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]. والتحاور تفاعل من حار إذا أجاب. فالتحاور حصول الجواب من جانبين، فاقتضت مراجعةً بين شخصين. والسماع في قوله: {والله يسمع تحاوركما} مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة. وكون الله تعالى عالماً بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإِخبار به إفادة الحكم، فتعيّن صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به وبعظيم منزلته لاشتماله على ترقّب النبي صلى الله عليه وسلم ما ينزله عليه من وحي، وترقب المرأة الرحمةَ، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما. وجملة {والله يسمع تحاوركما} في موضع الحال من ضمير {تجادلك}. وجيء بصيغة المضارع لاستحضار حالة مقارنة علم الله لتحاورهما زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور. وجملة {الله سميع بصير} تذييل لجملة {والله يسمع تحاوركما} أي: أن الله عالم بكل صوت وبكل مرئيّ. ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي صلى الله عليه وسلم وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات لتربية المهابة وإثارة تعظيم منته تعالى ودواعي شكره.
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)} تتنزل جملة {الذين يظّهّرون منكم من نسائهم} وما يتم أحكامها منزلةَ البيان لجملة {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1] الآية لأن فيها مخرجاً ممَّا لحق بالمجادِلة من ضُر بظهار زوجها، وإبطالاً له، ولها أيضاً موقع الاستئناف البياني لجملة {قد سمع الله} يثير سؤالاً في النفس أن تقول: فماذَا نشأ عن استجابة الله لشكوى المجادلة فيجاب بما فيه المخرج لها منه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {يَظّهّرون} بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء مفتوحتين بدون ألف بعد الظاء على أن أصله: يتَظهرون، فأدغمت التاء في الظاء لقرب مخرجيهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف {يَظَّاهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء وألف بعدها على أن أصله: يتظاهرون، فأدغمت التاء كما تقدم، وقرأ عاصم {يُظَاهِرون} بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء على أنه مضارع ظَاهَر. ولم يأت مصدره إلاّ على وزن الفِعال ووزن المفاعلة. يقال: صدر منه ظِهار ومُظاهرة، ولم يقولوا في مصدره بوزن التظَهر، فقراءة نافع قد استُغني فيها عن مصدره بمصْدر مرادفه. ومعناه أن يقول الرجل لزوجه: أنتتِ عليَّ كظهر أمِّي. وكانَ هذا قولاً يقولونه في الجاهلية يريدون به تأبيد تحريم نكاحها وبتّ عصمته. وهو مشتق من الظهر ضد البطن لأن الذي يقول لامرأته: أنتتِ عليَّ كظهر أمي، يُريد بذلك أنه حرمها على نفسه. كما أن أُمه حرام عليه، فإسناد تركيب التشبيه إلى ضمير المرأة على تقدير حالة من حالاتها، وهي حالة الاستمتاع المعروف، سَلكوا في هذا التحريم مسلك الاستعارة المكنية بتشبيه الزوجة حينَ يقربها زوجها بالراحلة، وإثباتُ الظهر لها تخيّل للاستعارة، ثم تشبيهِ ظهر زوجته بظهر أمه، أي في حالة من أحواله، وهي حالة الاستمتاع المعروف. وجُعل المشبه ذات الزوجة. والمقصود أخصُّ أحوال الزوجة وهو حال قربانها فآل إلى إضافة الأحكام إلى الأعيان. فالتقدير: قربانككِ كقربان ظهرِ أُمي، أي اعتلائها الخاص. ففي هذه الصيغة حذف ومجيء حروف لفظ ظهر في صيغة ظهار أو مظاهرة يشير إلى صيغة التحريم التي هي «أنت عليّ كظهر أمّي» إيماء إلى تلك الصيغة على نحو ما يستعمل في النحت وليس هو من التحت لأن النحت يشتمل على حروف من عدة كلمات. قال المفسرون وأهل اللغة: كان الظهار طلاقاً في الجاهلية يقتضي تأبيد التحريم. وأحسب أنه كان طلاقاً عند أهل يثرب وما حولها لكثرة مخالطتهم اليهود ولا أحسب أنّه كان معروفاً عند العرب في مكة وتهامة ونجد وغيرها ولم أقف على ذلك في كلامهم. وحسبك أن لم يذكر في القرآن إلا في المدني هنا وفي سورة الأحزاب. والذي يلوح لي أن أهل يثرب ابتدعوا هذه الصيغة للمبالغة في التحريم، فإنهم كانوا قبل الإِسلام ممتزجين باليهود متخلّقين بعوائدهم، وكان اليهود يمنعون أن يأتي الرجل امرأتَه من جهة خلفها كما تقدم في قوله تعالى: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} في سورة [البقرة: 223]. فلذلك جاء في هذه الصيغة لفظ الظَّهر، فجمعوا في هذه الصيغة تغليظاً من التحريم وهي أنها كأُمّه، بل كظهر أمه. فجاءت صيغة شنيعة فظيعة. وأخذوا من صيغة أنت علي كظهر أمي أصرح ألفاظها وأخصها بغرضها وهو لفظ ظَهر فاشتقّوا منه الفعل بزِنَات متعددة، يقولون: ظاهر من امرأته، وظهّر مثل ضاعف وضعَّف، ويدخلون عليهما تاء المطاوعة. فيقولون: تَظاهر منها وتظَهر، وليس هذا من قبيل النحت نحو: بسمل، وهَلّل، لعدم وجود حرف من الكلمات الموجودة في الجملة كلها. والخطاب في قوله: منكم} يجوز أن يكون للمسلمين، فيكون ذكر هذا الوصف للتعميم بياناً لمدلول الصلة من قوله: {الذين يظّهّرون} لئلا يُتوهّم إرادة معيّن بالصلة. و {مِن} بيانية كشأنها بعد الأسماء المبهمة فعلم أن هذا الحكم تشريع عام لكل مظاهر. وليس خصوصية لخَولة ولا لأمثالها من النساء ذوات الخصاصة وكثرة الأولاَد. وأما {مِن} في قوله: {من نسائهم} فابتدائية متعلقة ب {يظّهّرون} لتضمنه معنى البعد إذ هو قد كان طلاقاً والطلاق يبعد أحد الزوجين من الآخر، فاجتلب له حرف الابتداء. كما يقال: خرج من البلد. وقد تبين أن المتعارف في صيغة الظهار أن تشتمل على ما يدل على الزوجة والظهر والأم دون التفات إلى ما يربط هذه الكلمات الثلاث من أدوات الربط من أفعال وحروف نحو: أنتتِ عليّ كظهر أمّي، وأنتتِ مِنّي مثل ظهر أمي، أو كوني لي كظهر أمي، أو نحو ذلك. فأما إذا فُقِد بعض الألفاظ الثلاثة أو جميعها. نحو: وجهُك عليّ كظهر أمي. أو كجَنب أمّي، أو كظهر جدتي، أو ابنتي، من كل كلام يفيد تشبيه الزوجة، أو إلحاقها بإحدى النساء من مَحارِمِه بقصد تحريم قربانها، فذلك كله من الظهار في أشهر أقوال مالك وأقواللِ أصحابه وجمهور الفقهاء، ولا ينتقل إلى صيغة الطلاق أو التحريم لأن الله أراد التوسعة على الناس وعدمَ المؤاخذة. ولم يُشِر القرآن إلى اسم الظهر ولا إلى اسم الأم إلا مراعاة للصيغة المتعارفة بين الناس يومئذٍ بحيث لا ينتقل الحكم من الظهار إلى صيغة الطلاق إلا إذا تجرد عن تلك الكلمات الثلاث تجرداً واضحاً. والصور عديدة وليست الإِحاطة بها مفيدة، وذلك من مجال الفتوى وليس من مهيع التفسير. وجملة {ما هن أمهاتهم} خبر عن {الذين}، أي ليس أزواجهم أمهات لهم بقول أحدهم: أنت عليّ كظهر أمّي، أي لا تصير الزوج بذلك أمًّا لقائل تلك المقالة. وهذا تمهيد لإِبطال أثر صيغة الظهار في تحريم الزوجة، بما يشير إلى أن الأمومةَ حقيقةٌ ثابتة لا تُصنع بالقول إذ القول لا يبدل حقائق الأشياء، كما قال تعالى في سورة [الأحزاب: 4]: {ذلكم قولكم بأفواهكم ولذلك أعقب هنا بقوله: إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} أي فليست الزوجاتُ المظاهَرُ منهن بصائرات أمهات بذلك الظهار لانعدام حقيقة الأمومة منهن إذ هن لم يلدن القائلين: أنتتِ عليّ كظهر أمي، فلا يحرمْن عليهم، فالقصر في الآية حقيقي، أي فالتحريم بالظهار أمر باطل لا يقتضيه سبب يؤثِّر إيجاده. وجملة {إن أمهاتهم} الخ واقعة موقع التعليل لجملة {ما هن أمهاتهم}، وهو تعليل للمقصود من هذا الكلام. أعني إبطال التحريم بلفظ الظهار، إذ كونهن غير أمهاتهم ضروري لا يحتاج إلى التعليل. وزيد صنيعهم ذَمّاً بقوله: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} توبيخاً لهم على صنيعهم، أي هو مع كونه لا يوجب تحريم المرأة هو قول منكر، أي قبيح لما فيه من تعريض حُرمة الأم لتخيُّلات شنيعة تخطر بمخيلة السامع عند ما يسمع قول المظاهر: أنتتِ عليّ كظهر أمّي. وهي حالة يستلزمها ذكر الظهر في قوله: «كظهر أمي». وأحسب أن الفكر الذي أملى صيغة الظهار على أوّل من نطقَ بها كان مليئاً بالغضب الذي يبعث على بذيء الكلام مثل قولهم: امصُصْ بَظْر أمك في المشاتمة، وهو أيضاً قول زور لأنه كذب إذ لم يحرمها الله. وقد قال تعالى في سورة [الأحزاب: 4]: {وما جعل أزواجكم اللائي تظّهّرون منهن أمهاتكم} وتأكيد الخبر بإنّ} واللاممِ، للاهتمام بإيقاظ الناس لشناعته إذ كانوا قد اعتادوه فنُزلوا منزلة من يتردد في كونه منكراً أو زوراً، وفي هذا دلالة على أن الظهار لم يكن مشروعاً في شَرع قديم ولا في شريعة الإِسلام، وأنه شيء وضعَه أهل الجاهلية كما نبه عليه عَدُّه مع تكاذيب الجاهلية في قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظّهّرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم} وقد تقدم في سورة [الأحزاب: 4]. وبعد هذا التوبيخ عَطف عليه جملة وإن الله لعفو} كناية عن عدم مواخذتهم بما صدر منهم من الظهار قبل هذه الآية، إذ كان عذرهم أن ذلك قول تابعوا فيه أسلافهم وجرَى على ألسنتهم دون تفكر في مدلولاته. وأما بعد نزول هذه الآية فمذهب المالكية: أن حكم إيقاعه الحُرمة كما صرح به ابن راشد القفصي في «اللُّباب» لقوله بعده: {وتلك حدود الله} [المجادلة: 4] أن إيقاع الظهار معصية، ولكونه معصية فسّر ابن عطية قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً}. وبذلك أيضاً فسّر القرطبي قوله تعالى: {وتلك حدود الله}. وقال ابن الفرس: هو حرام لا يحلّ إيقاعه. ودَل على تحريمه ثلاثة أشياء: أحدها: تكذيب الله تعالى من فعل ذلك. الثاني: أنه سمّاه منكراً وزوراً، والزور الكذب وهو محرّم بإجماع. الثالث: إخباره تعالى عنه بأنه يعفو عنه ويغفر ولا يُعْفَى ويُغفر إلاّ على المذنبين. وأقوال فقهاء الحنفية تدل على أن الظهار معصية ولم يصفه أحد من المالكية ولا الحنفية بأنه كبيرة. ولا حجة في وصفه في الآية بزور، لأن الكذب لا يكون كبيرة إلا إذا أفضى إلى مضرة. وعَدّ السبْكي في «جمع الجوامع» الظهارَ من جملة الكبائر وسلمه المحلي. والكاتبون قالوا: لأن الله سماه زوراً والزور كبيرة فكون الظهار كبيرة قول الشافعية، وفيه نظر فإنهم لم يَعدوا الكذب على الإِطلاق كبيرة. وإنما عدوا شهادة الزور كبيرة. وأعقب {لعفو} بقوله: {غفور} فقوله: {وإن الله لعفو غفور} في معنى: أن الله عفا عنهم وغفر لهم لأنه عفوّ غفور، يغفر هذا وما هو أشد. والعفو: الكثير العفو، والعفو عدم المؤاخذة بالفعل أي عفو عن قولهم: الذي هو منكر وزور. والغفور: الكثير الغفران، والغفران الصفح عن فاعل فعل من شأنه أن يعاقبه عليه، فذكر وصف {غفور} بعد وصف (عفوّ) تتميم لتمجيد الله إذ لا ذنب في المظاهرة حيث لم يسبق فيها نهي، ومع ما فيه من مقابلة شيئين وهما {منكراً} و{زوراً}، بشيْئين هما (عفوّ غفور). وتأكيد الخبر في قوله تعالى: {وإن الله لعفو غفور} لمشاكلة تأكيد مقابله في قوله: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً}. وقوله: {وإن الله لعفو غفور} يدل على أن المظاهرة بعد نزول هذه الآية منهي عنها وسنذكر ذلك. وقد أَومَأ قوله تعالى: {وإن الله لعفو غفور} إلى أن مراد الله من هذا الحكم التوسعة على الناس، فعلمنا أن مقصد الشريعة الإِسلامية أن تدور أحكام الظهار على محور التخفيف والتوسعة، فعلى هذا الاعتبار يجب أن يجري الفقهاء فيما يفتون. ولذلك لا ينبغي أن تلاحظ فيه قاعدة الأخذ بالأحوط ولا قاعدة سدّ الذريعة، بل يجب أن نسير وراء ما أضاء لنا قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً وإن الله لعفو غفور}. وقد قال مالك في «المدونة»: لا يقبّل المظاهر ولا يباشر ولا ينظر إلى صدر ولا إلى شعَر. قال الباجي في «المنتقى»: فمن أصحابنا من حمل ذلك على التحريم، ومنهم من حمله على الكراهة لئلا يدعوه إلى الجماع. وبه قال الشافعي وعبد الملك. قلت: وهذا هو الوجه لأن القرآن ذكر المسيس وهو حقيقة شرعية في الجماع. وقال مالك: لو تظاهر من أربع نسوة بلفظ واحد في مجلس واحد لم تجب عليه إلا كفارة واحدة عند مالك قولاً واحداً. وعند أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليهما. والمقصود من هذه الآية إبطال تحريم المرآة التي يظاهر منها زوجها. وتحميق أهل الجاهلية الذين جعلوا الظهار محرّماً على المظاهر زوجَه التي ظاهر منها. وجعل الله الكفارة فدية لذلك وزجراً ليكفّ الناس عن هذا القول. ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " من قال لصاحبه: تعالى أَقامرْك فليتصدقْ " أي من جَرى ذلك على لسانه بعد أن حرم الله الميسر.
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)} عطف على جملة {الذين يظّهّرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم} [المجادلة: 2] أعيد المبتدأ فيها للاهتمام بالحكم والتصريح بأصحابه وكان مقتضى الكلام أن يقال: فإن يعودوا لما قالوا فتحرير رقبة، فيكون عطفاً على جملة الخبر من قوله: {ما هن أمهاتهم} [المجادلة: 2.] و {ثمّ} عاطفة جملةَ {يعودون} على جملة {يظّهّرون}، وهي للتراخي الرتبي تعريضاً بالتخطئة لهم بأنهم عادوا إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية بعدَ أن انقطع ذلك بالإِسلام. ولذلك علق بفعل {يعودون} ما يدل على قولهم لفظ الظهار. والعود: الرجوع إلى شيء تركه وفارقه صاحبه. وأصله: الرجوع إلى المكان الذي غادره، وهو هنا عوْد مجازي. ومعنى {يعودون لما قالوا} يحتمل أنهم يعودون لما نطقوا به من الظهار. وهذا يقتضي أن المظاهِر لا يَكون مظاهراً إلا إذا صدر منه لفظ الظهار مرة ثانية بعد أُولى. وبهذا فسر الفراء. وروي عن علي بن طلحة عن ابن عباس: بحيث يكون ما يصدر منه مرة أولى معفواً عنه. غير أن الحديث الصحيح في قضية المجادِلة يدفع هذا الظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأوس بن الصامت: «أعتق رقبة» كما سيأتي من حديث أبي داود فتعين أن التكفير واجب على المظاهر من أول مرة ينطلق فيها بلفظ الظهار. ويحتمل أن يراد أنهم يريدون العود إلى أزواجهم، أي لا يحبون الفراق ويرومون العود إلى المعاشرة. وهذا تأويل اتفق عليه الفقهاء عدا داود الظاهري وبُكير بن الأشج وأبا العالية. وفي «الموطأ» قال مالك في قول الله عز وجل: {والذين يظّهّرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} قال سمعت: أن تفسير ذلك أن يُظاهر الرجل من امرأته ثم يُجمع على إصابتها وإمساكها فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها فلا كفارة عليه. وأقوال أبي حنيفة والشافعي والليثثِ تحوم حول هذا المعنى على اختلاف في التعبير لا نطيل به. وعليه فقد استعمل فعل {يعودون} في إرادة العودة كما استعمل فعل مستعمل في معنى إرادة العود والعزم عليه لا على العود بالفعل لأنه لو كان عوداً بالفعل لم يكن لاشتراط التفكير قبل المسِيس معنى، فانتظم من هذا معنى: ثم يريدون العود إلى ما حرموه على أنفسهم فعليهم كفارة قبل أن يعودوا إليه على نحو قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] أي إذا أردتم القيام، وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سَألت فاسأل الله وإذا استعَنْت فاستعنْ بالله ". وتلك هي قضية سبب النزول لأن المرأة ما جاءت مجادلة إلا لأنها علمت أن زوجها المظاهر منها لم يرد فراقها كما يدل عليه الحديث المروي في ذلك في كتاب أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر منّي زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله يجادلني ويقول: اتقي الله. فإنه ابن عمك؟ فما برحتُ حتّى نزل القرآن. فقال: «يعتق رقبة». قالت: لا يجد. قال: «فيصوم شهرين متتابعين». قالت: إنه شيخ كبير ما بِه من صيام. قال: «فليطعم ستين مسكيناً». قالت: ما عنده شيء يتصدق به. فأُتي ساعتئذٍ بعَرَق من تمر قلت: يا رسول الله فإني أعينه بعرَق آخر. قال: «قد أحسنتتِ اذهبي فأَطعمي بهما عنه ستّين مسكيناً وارجعي إلى ابننِ عمّك». قال أبو داود في هذا: إنها كفرت عنه من غير أن تستأمره. والمراد «بما قالوا» ما قالوا بلفظ الظهار وهو ما حَرموه على أنفسهم من الاستمتاع المفاد من لفظ: أنتتِ عليّ كظهر أمي، لأن: أنت عليّ. في معنى: قربانك ونحوه عليّ كمِثله من ظهر أمي. ومنه قوله تعالى: {ونرثه ما يقول} [مريم: 80]، أي مالاً وولداً في قوله تعالى: {وقال لأوتين مالاً وولداً} [مريم: 77]، وقوله: {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم} [آل عمران: 183] أي قولكم حتى يأتينا بقربان تأكله النار. ففعل القول في هذا وأمثاله ناصبُ لمفرد لوقوعه في خلاف جملة مقولة، وإيثار التعبير عن المعنى الذي وقع التحْريم له. فلفظ الظهار بالموصول وصلته هذه إيجاز وتنزيه للكلام عن التصريح به. فالمعنى: ثم يرومون أن يرجعوا للاستمتاع بأزواجهم بعد أن حرموه على أنفسهم. وفهم من قوله: {ثم يعودون لما قالوا} أن من لم يُرِد العود إلى امرأته لا يخلو حالهُ: فإما أن يريد طلاقها فله أن يوقع علَيها طلاقاً آخر لأن الله أبطل أن يكون الظهار طلاقاً، وإما أن لا يريد طلاقاً ولا عوداً. فهذا قد صار ممتنعاً من معاشرة زوجه مضِرًّا بها فله حكم الإِيلاء الذي في قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة: 226] الآية. وقد كانوا يجعلون الظهار إيلاء كما في قصة سلمة بن صخر البياضي. ثم الزرقي في كتاب أبي داود قال: «كنت امرأ أُصِيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يُتايع بي (بتحتية في أوله مضمومة ثم مثناة فوقية ثم ألف ثم تحتية، والظاهر أنها مكسورة. والتتايع الوقوع في الشر فالباء في قوله: (بي) زائدة للتأكيد) حتى أُصبح، فظاهرتُ منها حتى ينسلخ شهر رمضان». الحديث. واللام في قوله: {لما قالوا} بمعنى (إلى) كقوله تعالى: {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5] ونظيره قوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28]. وأحسب أن أصل اللام هو التعليل، وهو أنها في مثل هذه المواضع إن كان الفعل الذي تعلقت به ليس فيه معنى المجيء حملت اللام فيه على معنى التعليل وهو الأصل نحو: {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5]، وما يقع فيه حرف (إلى) من ذلك مجاز بتنزيل من يُفعل الفعل لأجله منزلةَ من يجيء الجائي إليه، وإن كان الفعل الذي تعلقت به اللام فيه معنى المجيء مثل فعل العَوْد فإن تعلق اللام به يشير إلى إرادة معنى في ذلك الفعل بتمجّز أو تضميننٍ يناسبه حرف التعليل نحو قوله تعالى: {كل يجري لأجل مسمى} [الرعد: 2]، أي جَرْيُه المستمر لقصده أجلاً يبلغه. ومنه قوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] أي عاودوا فعله ومنه ما في هذه الآية. وفي «الكشاف» في قوله تعالى: {كل يجري لأجل مسمى} في سورة [الزمر: 5] أنه ليس مثل قوله تعالى: {كل يجري إلى أجل مسمى} في سورة [لقمان: 29] أي أنه ليس من تعاقب الحرفين ولا يَسلك هذه الطريقة إلا ضيّق العطن، ولكن المعنيين أعني الاستعلاء والتخصيص كلاهما ملائم لصحة الغرض لأن قوله: إلى أجل} معناه يبلغه، وقوله: {لأجل} يريد لإِدراك أجل تجعل الجري مختصاً بالإِدراك ا ه. فيكون التقدير على هذا الوجه ثم يريدون العود لأجل ما قالوا، أي لأجل رغبتهم في أزواجهم، فيصير متعلَّق فعل {يعودون} مقدّراً يدل عليه الكلام، أي يعودون لما تركوه من العصمة، ويصير الفعل في معنى: يندَمون على الفراق. وتحصل من هذا أن كفارة الظهار شرعت إذا قصد المظاهر الاستمرار على معاشرة زوجه، تحلةً لما قصده من التحريم، وتأديباً له على هذا القصد الفاسد والقول الشنيع. وبهذا يكون محمل قوله: {من قبل أن يتماسا} على أنه من قبل أن يمسّ زوجه مسّ استمتاع قبل أن يكفر وهو كناية عن الجماع في اصطلاح القرآن، كما قال: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237]. ولذلك جعلت الكفارة عِتق رقبة لأنه يَفتدي بتلك الرقبة رقبةَ زوجه. وقد جعلها الله تعالى موعظة بقوله: {ذلكم توعظون به}. واسم الإِشارة في قوله: {ذلكم} عائد إلى تحرير رقبة. والوعظ: التذكير بالخير والتحذير من الشر بترغيب أو ترهيب، أي فرضُ الكفارة تنبيه لكم لتتفَادَوْا مسيس المرأة التي طلقت أو تستمروا على مفارقتها مع الرغبة في العود إلى معاشرتها لئلا تعودوا إلى الظهار. ولم يسم الله ذلك كفارة هنا وسمّاها النبي صلى الله عليه وسلم كفارة كما في حديث سلمة بن صخر البياضي في «جامع الترمذي» وإنما الكفارة من نوع العقوبة في أحد قولين عن مالك وهو قول الشافعي حكاه عنه ابن العربي في «الأحكام». فالمظاهر ممنوع من الاستمتاع بزوجته المظاهَر منها، أي ممنوع من علائق الزوجية، وذلك يقتضي تعطيل العصمة ما لم يكفر لأنه ألزم نفسه ذلك فإن استمتع بها قبل الكفارة كلها فليتُب إلى الله وليستغفر وتتعين عليه الكفارة ولا تتعدد الكفارة بسبب الاستمتاع قبل التكفير لأنه سبب واحد فلا يضرّ تكرر مسببه، وإنما جعلت الكفارة زجراً ولذلك لم يكن وطء المظاهر امرأته قبل الكفارة زناً. وقد روى أبو داود والترمذي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته ثم وقع عليها قبل أن يكفر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة واحدة، وهو قول جمهور العلماء. وعن مجاهد وعبد الرحمن بن مهدي أن عليه كفارتين. وتفاصيل أحكام الظهار في صيغته وغير ذلك مفصلة في كتب الفقه. وقوله: {والله بما تعملون خبير} تذييل لجملة {ذلكم توعظون به}، أي والله عليم بجميع ما تعملونه من هذا التكفير وغيره.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} رخصة لمن لم يجد عتق رقبة أن ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين لأنه لما لم يجد رقبة يعتاض بفكّها عن فكّ عصمة الزوجة نقل إلى كفارة فيها مشقة النفس بالصبر على لذة الطعام والشراب ليدفع ما التزمه بالظهار من مشقة الصبر على ابتعاد حَليلته فكان الصوم درجة ثانية قريبة من درجة تحرير الرقبة في المناسبة. وأعيد قيد {من قبل أن يتماسا} للدلالة على أنه لا يكون المسّ إلا بعد انقضاء الصيام، فلا يظن أن مجرد شروعه في الصيام كاففٍ في العود إلى الاستمتاع. {فمن لم يستطع}، أي لعجزه أو ضعفه رخص الله له أن ينتقل إلى إطعام ستين مسكيناً عوضاً عن الصيام فالإِطعام درجة ثالثة يدفع عن ستين مسكيناً ألم الجوع عوضاً عما كان التزمه على نفسه من مشقة الابتعاد عن لذّاته، وإنما حددت بستين مسكيناً إلحاقاً لهذا بكفارة فطر يوم من رمضان عمداً بجامع أن كليهما كفارة عن صيام فكانت الكفارة متناسبة مع المكفر عنه مرتبة ترتيباً مناسباً. وقد أجمل مقدار الطعام في الآية اكتفاء بتسميته إطعاماً فيحمل على ما يقصده الناس من الطعام وهو الشبع الواحد كما هو المتعارف في فعل طعم. فحمله علماؤنا على ما به شبع الجائع فيقدر في كل قوم بحسب ما به شبع معتاد الجائعين. وعن مالك رحمه الله في ذلك روايتان، إحداهما: أنه مُدّ واحد لكل مسكين بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم والثانية: أنه مُدَّان أو مَا يقرب من المدّين وهو مدّ بمدّ هشام (بن إسماعيل المخزومي أمير المدينة) وقدرُه مدَّان إلا ثلثَ مدّ قال: قال أشهب: قلت لمالك: أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال: نعم الشبع عندنا مدّ بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر (أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة). وقوله هذا يقتضي أن يكون الإِطعام في المدينة مدًّا بمُدّ النبي صلى الله عليه وسلم مثل كفارة الفطر في رمضان فكيف جعله مالك مقدراً بمدَّين أو بمُدّ وثلثين، وقال: لو أطعم مدّاً ونصفَ مدّ أجزأه. فتعين أن تضعيف المقدار في الإِطعام مراعىً فيه معنى العقوبة على ما صنع، وإلا فلا دليل عليه من نص ولا قياس. قال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمدّ هشام في كفارة الظهار تغليظاً على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكراً من القول وزوراً فهذا مما ثبت بعمل أهل المدينة. وقدّر أبو حنيفة الشبع بمدّين بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم فلعه راعى الشبع في معظم الأقطار غير المدينة، وقدّره الشافعي بمدّ واحد لكل مسكين قياساً على ما ثبت في السنة في كفارة الإِفطار وكفارة اليمين. ولم يذكر مع الإِطعام قيدُ {من قبل أن يتماسا} اكتفاء بذكره مع تحرير الرقبة وصيام الشهرين ولأنه بدل عن الصيام ومجزَّأ لمثل أيام الصيام. هذا قول جمهور الفقهاء. وعن أبي حنيفة أن الإِطعام لا يشترط فيه وقوعه من قبل أن يتماسّا. ثم إن وقع المسيس قبل الكفارة أو قبل إتمامها لم يترتب على ذلك إلا أنه آثم إذ لا يمكن أن يترتب عليه أثر آخر، وهذا ما بيّنه حديث سلمة بن صخر الذي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع على امرأته بعد أن ظاهر منها، فأمره بأن لا يعود إلى مثل ذلك حتى يكفّر. وهذا قول جمهور الفقهاء، وقال مجاهد: عليه كفّارتان. وصريح الآية أن تتابع الصيام شرط في التكفير، وعليه فلو أفطر في خلاله دون عذر وجب عليه إعادته. ولا يمَسّ امرأته حتى يتم الشهران متتابعين فإن مسها في خلال الشهرين أثِم ووجب عليه إعادة الشهرين. وقال الشافعي: إذا كان الوطء ليلاً لم يبطل التتابع لأن الليل ليس محلاً للصوم، وهذا هو الجاري على القياس وعلى مقتضى حديث سلمة بن صخر. وأما كون آثماً بالمسيس قبل تمام الكفارة فمسألة أخرى، فمن العجب قول أبي بكر ابن العربي في كلام الشافعي أنه كلام من لم يذق طعم الفقه لأن الوطء الواقع في خلال الصوم ليس بالمحل المأذون فيه بالكفارة فإنه وطء تعدَ فلا بدّ من الامتثال للأمر بصوم لا يكون في أثنائه وطء اه. والمسكين: الشديد الفقر، وتقدّم في سورة براءة. والمظاهر إن كان قادراً على بعض خصال الكفارة وأبى أن يكفّر انقلب ظهارُه إيلاءً. فإن لم ترض المرأة بالبقاء على ذلك فله أجل الإِيلاء فإن انقضى الأجل طلقت عليه امرأته إن طلبت الطلاق. وإن كان عاجزاً عن خصال الكفارة كلها كان كالعاجز عن الوطء بعد وقوعه منه فتبقى العصمة بين المتظاهر وامرأته ولا يقربها حتى يكفر. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة سلمة بن صخر من أموال بيت المال فحقّ على ولاة الأمور أن يدفعوا عن العاجز كفارة ظهاره فإن تعذر ذلك فالظاهر أن الكفارة ساقطة عنه، وأنه يَعود إلى مسيس امرأته، وتبقى الكفارة ذنباً عليه في ذمته لأن الله أبطل طلاق الظهار. {مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وللكافرين عَذَابٌ}. الإِشارة إلى ما ذكر من الأحكام، أي ذلك المذكورُ لتؤمنوا بالله ورسوله، أي لتؤمنوا إيماناً كاملاً بالامتثال لما أمركم الله ورسوله فلا تشوبوا أعمال الإِيمان بأعمال أهل الجاهلية، وهذا زيادة في تشنيع الظهار، وتحذير للمسلمين من إيقاعه فيما بعد، أو ذلك النقل من حرج الفراق بسبب قول الظهار إلى الرخصةِ في عدم الاعتداد به وفي الخلاص منه بالكفارة، لتيسير الإِيمان عليكم فهذا في معنى قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. و {لتؤمنوا} خبر عن اسم الإِشارة، واللام للتعليل. ولما كان المشار إليه وهو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً عِوضاً عن تحرير رقبة كان من عُلّل به تحريرُ رقبة منسحباً على الصيام والإِطعام، وما علّل به الصيام والإِطعام منسحباً على تحرير رقبة، فأفاد أن كلاّ من تحرير رقبة وصيام شهرين وإطعام ستين مسكيناً مشتمل على كلتا العلّتين وهما: الموعظة والإِيمان بالله ورسوله. والإِشارة في {وتلك حدود الله} إلى ما أشير إليه ب {ذلك}، وجيء له باسم إشارةِ التأنيث نظراً للإخبار عنه بلفظ {حدود} إذ هو جمع يجوز تأنيث إشارته كما يجوز تأنيث ضميره ومثله قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} في سورة [البقرة: 229]. وجملة وللكافرين عذاب أليم} تتميم لجملة {ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله}، أي: ذلك الحكم وهو إبطال التحريم بالظهار حكم الإِسلام. وأما ما كانوا عليه فهو من آثار الجاهلية فهو سنة قوم لهم عذاب أليم على الكفر وما تولد منه من الأباطيل، فالظهار شرع الجاهلية. وهذا كقوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37]، لأنه وضعه المشركون ولم يكن من الحنيفية.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)} {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} لما جرى ذكر الكافرين وجرى ذكر حدود الله وكان في المدينة منافقون من المشركين نقل الكلام إلى تهديدهم وإيقاظ المسلمين للاحتراز منهم. والمحادَّة: المشاقَّة والمعاداة، وقد أوثر هذا الفعل هنا لوقوع الكلام عقب ذكر حدود الله، فإن المحادة مشتقّة من الحد لأن كل واحد من المتعاديَين كأنّه في حَدّ مخالف لحدّ الآخر، مثل ما قيل أن العداوة مشتقة من عُدْوَة الوادي لأن كلاً من المتعاديَين يشبه من هو من الآخر في عُدوة أخرى. وقيل: اشتقت المشاقّة من الشقة لأن كلاً من المتخالفين كأنه في شقة غير شقة الآخر. والمراد بهم الذين يُحَادُون رسول الله صلى الله عليه وسلم المرسَلَ بدين الله فمحادته محادة لله. والكبت: الخزي والإِذلالُ وفعل {كبتوا} مستعمل في الوعيد أي سيكبَتون، فعبّر عنه بالمضيّ تنبيهاً على تحقيق وقوعه لصدوره عمّن لا خلاف في خبره مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] ولأنه مُؤيِّدٌ بتنظيره بما وقع لأمثالهم. وقرينة ذلك تأكيد الخبر ب {إنّ} لأن الكلام لو كان إخباراً عن كبت وقع لم يكن ثم مقتضى لتأكيد الخبر إذ لا ينازع أحد فيما وقع، ويزيد ذلك وضوحاً قوله: {كما كبت الذين من قبلهم} يعني الذين حادُّوا الله في غزوة الخندق. وتقدم ذكرها في سورة الأحزاب. وما كان من المنافقين فيها فالمراد بصلة {من قبلهم} من كان من قبلهم من أهل النفاق وهم يعرفونهم. {قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءايات}. معترضة بين جملة {إن الذين يحادون الله ورسوله} وجملة {وللكافرين عذاب مهين} أي لا عذر لهم في محادّة الله ورسوله فإن مع الرسول صلى الله عليه وسلم آيات القرآن بيّنة على صدقه. {بينات وللكافرين عَذَابٌ}. عطف على جملة {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم}، أي لهم بعد الكبت عذاب مهين في الآخرة. وتعريف (الكافرين) تعريف الجنس ليستغرق كل الكافرين. ووصف عذابهم بالمهين لمناسبة وعيدهم بالكبت الذي هو الذل والإِهانة.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)} يجوز أن يكون {يوم} ظرفاً متعلقاً بالكون المقدّر في خبر المبتدأ من {للكافرين عذاب مهين} [المجادلة: 5.] ويجوز أن يكون متعلقاً ب {مهين، ويجوز أن يكون منصوباً على المفعول به لفعل تقديره: اذكر تنويهاً بذلك اليوم وتهويلاً عليهم، وهذا كثير في أسماء الزمان التي وقعت في القرآن. وقد تقدم في قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة} في سورة [البقرة: 30]. وضمير الجمع عائد إلى الذين يحادون الله ورسوله} و{الذين من قبلهم} [المجادلة: 5]. ولذلك أتى بلفظ الشمول وهو {جميعاً} حالاً من الضمير. وقوله: {فينبئهم بما عملوا} تهديد بفضح نفاقهم يوم البعث. وفيه كناية عن الجزاء على أعمالهم. وجملة {أحصاه الله ونسوه} في موضع الحال من (ما عملوا). والمقصود من الحال هو ما عطف عليها من قوله: {ونسوه} لأن ذلك محلّ العبرة. وبه تكون الحال مؤسسة لا مؤكدة لعاملها، وهو «ينبئهم»، أي علمه الله علماً مفصلاً من الآن، وهم نسوه، وذلك تسجيل عليهم بأنهم متهاونون بعظيم الأمر وذلك من الغرور، أي نسوه في الدنيا بَلْهَ الآخرة فإذا أُنبئوا به عجبوا قال تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً} [الكهف: 49]. وجملة {والله على كل شيء شهيد} تذييل. والشهيد: العالم بالأمور المشاهدة.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} استئناف ابتدائي هو تخلص من قوله تعالى: {أحصاه الله ونسوه} [المجادلة: 6] إلى ذكر علم الله بأحوال المنافقين وأحلافهم اليهود. فكان المنافقون يناجي بعضهم بعضاً ليُرِيَ للمسلمين مودة بعض المنافقين لبعض فإن المنافقين بتناجيهم يظهرون أنهم طائفة أمرها واحد وكلمتها واحدة، وهم وإن كانوا يظهرون الإِسلام يحِبّون أن تكون لهم خيفة في قلوب المسلمين يتقون بها بأسهم إن اتهَموا بعضهم بالنفاق أو بدرت من أحدهم بادرة تنمّ بنفاقه، فلا يُقدم المؤمنون على أذاه لعلمهم بأن له بطانة تدافع عنه. وكانوا إذا مرّ بهم المسلمون نظروا إليهم فحسب المارّون لعلّ حدثاً حدث من مصيبة، وكان المسلمون يومئذٍ على توقع حرب مع المشركين في كل حين فيتوهّمون أن مناجاة المتناجين حديث عن قرب العدوّ أو عن هزيمة للمسلمين في السرايَا التي يَخرجون فيها، فنزلت هذه الآيات لإِشعار المنافقين بعلم الله بماذا يتناجون، وأنه مُطلع رسوله على دخيلتهم ليكفُّوا عن الكيد للمسلمين. فهذه الآية تمهيد لقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} الآية [المجادلة: 8]. و {ألم تر} من الرؤية العلمية لأن علم الله لا يُرى وسَدَّ المصدر مسدَّ المفعول. والتقدير: ألم ترَ الله عالماً. و {ما في السموات وما في الأرض} يعمّ المبصرات والمسموعات فهو أعم من قوله: {والله على كل شيء شهيد} [المجادلة: 6] لاختصاصه بعلم المشاهدات لأن الغرض المفتتح به هذه الجملة هو علم المسموعات. وجملة {ما يكون من نجوى ثلاثة} إلى آخرها بدل البعض من الكل فإن معنى قوله: {إلا هو رابعهم}. وقوله: {إلا هو سادسهم} وقوله: {إلا هو معهم}، أنه مطلع على ما يتناجون فيه فكأنه تعالى نجيّ معهم. و {ما} نافية. و{يكون} مضارع (كان) التامة، و{من} زائدة في النفي لقصد العموم، و{نجوى} في معنى فاعل {يكون}. وقرأ الجمهور {يكون} بياء الغائب لأن تأنيث {نجوى} غير حقيقي، فيجوز فيه جري فعله على أصل التذكير ولا سيما وقد فصل بينه وبين فاعله بحرف {من} الزائدة. وقرأه أبو جعفر بتاء المؤنث رعياً لصورة تأنيث لفظه. والنجوى: اسم مصدر ناجاهُ، إذا سارَّه. و{ثلاثة} مضاف إليه {نجوى}. أي ما يكون تناجي ثلاثة من الناس إلا الله مطلع عليهم كرابع لهم، ولا خمسة إلا هو كسادس لهم، ولا أدنى ولا أكثر إلاّ هو كواحد منهم. وضمائر الغيبة عائدة إلى {ثلاثة} وإلى {خمسة} وإلى {ذلك} و{أكثر}. والمقصود من هذا الخبر الإِنذار والوعيد وتخصيص عددي الثلاثة والخمسة بالذكر لأن بعض المتناجين الذي نزلت الآية بسببهم كانوا حلفاً بعضها من ثلاثة وبعضها من خمسة. وقال الفراء: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود. وفي «الكشاف» عن ابن عباس: نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو (بننِ عمير من ثقيف) وصفوان بن أمية (السلمي حليف بني أسد) كانوا يتحدثون فقال أحدهم: أَترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً. وقال الثالث: إن كان يعلم بعضاً فهو يعلم كله. اه. ولم أرَ هذا في غير «الكشاف» ولا مناسبة لهذا بالوعيد في قوله تعالى: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة} فإن أولئك الثلاثة كانوا مسلمين وعدّوا في الصحابة وكأنَّ هذا تخليط من الراوي بين سبب نزول آية {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم} في سورة [فصلت: 22]. كما في صحيح البخاري} وبين هذه الآية. وركبت أسماء ثلاثة آخرين كانوا بالمدينة لأن الآية مدنية فآية النجوى إنما هي في تناجي المنافقين أو فيهم وفي اليهود عن ابن عباس. والاستثناء في {إلا هو رابعهم} {إلا هو سادسهم} {إلا هو معهم} مفرع من أكوان وأحوال دل عليها قوله تعالى: {ما يكون} والجمل التي بعد حرف الاستثناء في مواضع أحوال. والتقدير: ما يكون من نجوى ثلاثة في حال من علم غيرهم بهم واطلاعه عليهم إلا حالة الله مطلع عليهم. وتكرير حرف النفي في المعطوفات على المنفي أسلوب عربي وخاصة حيث كان مع كل من المعاطيف استثناء. وقرأ الجمهور {ولا أكثر} بنصب {أكثر} عطفاً على لفظ {نجوى}. وقرأه يعقوب بالرفع عطفاً على محل {نجوى} لأنه مجرور بحرف جر زائد. و (أينما) مركب من (أين) التي هي ظرف مكان و(ما) الزائدة. وأضيف (أين) إلى جملة {كانوا}، أي في أي مكان كانوا فيه، ونظيره قوله: {وهو معكم أينما كنتم} في سورة [الحديد: 4]. (وثمّ} للتراخي الرتبي لأن إنباءهم بما تكلموا وما عملوه في الدنيا في يوم القيامة أدل على سعة علم الله من علمه بحديثهم في الدنيا لأن معظم علم العالِمين يعتريه النسيان في مثل ذلك الزمان من الطول وكثرة تدبير الأمور في الدنيا والآخرة. وفي هذا وعيد لهم بأن نجواهم إثم عظيم فنهي عنه ويشمل هذا تحذير من يشاركهم. وجملة {إن الله بكل شيء عليم} تذييل لجملة {ثم ينبئهم بما عملوا} فأغنت {إنّ} غناء فاء السببية كقول بشار: إن ذاك النجاح في التبكير *** وتأكيد الجملة ب {إن} للاهتمام به وإلا فإن المخاطب لا يتردد في ذلك. وهذا التعريض بالوعيد يدلّ على أن النهي عن التناجي كان سابقاً على نزول هذه الآية والآيات بعدها.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)} {لَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول}. إن كانت هذه الآية والآيتان اللتان بعدها نزلت مع الآية التي قبلها حسبما يقتضيه ظاهر ترتيب التلاوة كان قوله تعالى: {نهوا عن النجوى} مؤذناً بأنه سبق نهي عن النجوى قبل نزول هذه الآيات، وهو ظاهر قول مجاهد وقتادة: نزلت في قوم من اليهود والمنافقين نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجي بحضرة المؤمنين فلم ينتهوا، فنزلت، فتكون الآيات الأربع نزلت لتوبيخهم وهو ما اعتمدناه آنفاً. وإن كانت نزلت بعد الآية التي قبلها بفترة كان المراد النهي الذي أشار إليه قوله تعالى: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة} [المجادلة: 7] كما تقدم، بأن لم ينتهوا عن النجوى بعد أن سمعوا الوعيد عليها بقوله تعالى: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة}، فالمراد ب {الذين نهوا عن النجوى} هم الذين عنوا بقوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] الآية. و {ثم} في قوله: {ثم يعودون} للتراخي الرتبي لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها أعظم من ابتداء النجوى لأن ابتداءها كان إثماً لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيّئة نحو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نُهوا عنها فقد زادوا به تمرداً على النبي صلى الله عليه وسلم ومشاقّة للمسلمين. فالجملة مُستأنفة استئنافاً ابتدائياً اقتضاه استمرار المنافقين على نجواهم. والاستفهام في قوله: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} تَعجِيبي مراد به توبيخهم حين يسمعونه. والرؤية بصرية بقرينة تعديتها بحرف {إلى}. والتعريف في {النجوى} تعريف العهد لأن سياق الكلام في نوع خاص من النجوى. وهي النجوى التي تحزن الذين آمنوا كما ينبئ عنه قوله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا} [المجادلة: 10]. ويجوز أن يكون النهي عن جنس النجوى في أول الأمر يعمّ كل نجوى بمرأى من الناس سَدًّا للذريعة، قال الباجي في «المنتقى»: روي أن النهي عن تناجي اثنين أو أكثر دون واحد أنه كان في بَدء الإِسلام، فلما فشا الإِسلام وآمن الناس زال هذا الحكم لزوال سببه. قال ابن العربي في «أحكام القرآن» عند قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} الآية [114] في سورة النساء: إن الله تعالى أمر عباده بأمرين عظيمين: أحدهما: الإِخلاص وهو أن يستوي ظاهر المرء وباطنه، والثاني: النصيحة لكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنجوى خلاف هذين الأصلين وبعدَ هذا فلم يكن بد للخلق من أمر يختصون به في أنفسهم ويَخُص به بعضهم بعضاً فرخص في ذلك بصفة الأمر بالمعروف والصدقة وإصلاح ذات البين اه. وفي الموطأ} حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد " زاد في رواية مسلم " إلا بإذنه فإن ذلك يُحزنه " واختلف في محمل هذا النهي على التحريم أو على الكراهة، وجمهور المالكية على أنه للتحريم، قال ابن العربي في «القبس»: فإن كان قوله مخافة أن يُحزنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد انحسم التأويل، وإن كان من قول الراوي فهو أولى من تأويل غيره. وقال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: لا يتناجى أربعة دون واحد. وأما تناجي الجماعة دون جماعة فإنه أيضاً مكروه أو محرم اه. وحكى النّووي الإِجماع على جواز تناجي جماعة دون جماعة واحتج له ابن التِّين بحديث ابن مسعود قال: فأتيته (يعني النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ملأٍ فساررته. وحديثُ عائِشة في قصة فاطمة دالّ على الجواز. وقال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما. وأُلْحِقَ بالتناجي أن يتكلم رجلان بلغة لا يعرفها ثالث معهما. والقول في استعمال {ثم يعودون لما نهوا عنه} في معناه المجازي وتعديته باللام نظير القول في قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} [المجادلة: 3]. وكذلك القول في موقع {ثم} عاطفة الجملة. وصيغة المضارع في {يعودون} دالة على التجدد، أي يكررون العدد بحيث يريدون بذلك العصيان وقلة الاكتراث بالنهي فإنهم لو عادوا إلى النجوى مرة أو مرتين لاحتمل حالهم أنهم نسوا. و «ما نهوا عنه» هو النجوى، فعدل عن الإِتيان بضمير النجوى إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من التعليل لما بعدها من الوعيد بقوله: {حسبهم جهنم على ما في الصلة من التسجيل على سفههم. وقرأ الجمهور يتناجون} بصيغة التفاعل من نَاجى المزيد. وقرأه حمزة ورويس ويعقوب و{يَنْتَجُون} بصيغة الإِفتعال من نَجا الثلاثي المجرد أي سَارَّ غيره، والافتعال يَرِد بمعنى المفاعلة مثل اختصموا واقتتلوا. والإِثم: المعصية وهو ما يشتمل عليه تناجيهم من كلام الكفر وذم المسلمين. و {العدوان} بضم العين: الظلم وهو ما يدبرونه من الكيد للمسلمين. ومعصيةُ الرسول مخالفة ما يأمرهم به ومن جملة ذلك أنه نهاهم عن النجوى وهم يعودون لها. والياء للملابسة، أي يتناجون ملابسين الإِثم والعدوان ومعصية الرسول وهذه الملابسة متفاوتة. فملابسة الإِثم والعدوان ملابسة المتناجَى في شأنه لفعل المناجين. وملابسة معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ملابسة المقارنة للفعل، لأن نجواهم بعد أن نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها معصية وفي قوله: {نهوا عن النجوى} وقوله: {ومعصيت الرسول} دلالة على أنهم منافقون لا يهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينهَى اليهود عن أحوالهم. وهذا يرد قول من تأول الآية على اليهود وهو قول مجاهد وقتادة، بل الحق ما في ابن عطية عن ابن عباس أنها نزلت في المنافقين. {الرسول وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ فى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ}. بعد أن ذكر حالهم في اختلاء بعضهم ببعض ذكر حال نياتهم الخبيثة عند الحضور في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم يتتبعون سوء نياتهم من كلمات يتبادر منها للسامعين أنها صالحة فكانوا إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم يخفتون لفظ «السلام عليكم» لأنه شعار الإِسلام ولما فيه من جمع معنى السلامة يَعدلون عن ذلك ويقولون: أَنْعِم صباحاً، وهي تحية العرب في الجاهلية لأنهم لا يحبون أن يتركوا عوائد الجاهلية. نقله ابن عطية عن ابن عباس. فمعنى {بما لم يحيك به الله}، بغير لفظ السلام، فإن الله حيّاه بذلك بخصوصه في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب: 56]. وحيّاه به في عموم الأنبياء بقوله: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} [النمل: 59] وتحية الله هي التحية الكاملة. وليس المراد من هذه الآية ما ورد في حديث: أن اليهود كانوا إذا حيّوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: السّامّ عليك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد عليهم بقوله: «وعليكم». فإن ذلك وارد في قوم معروف أنهم من اليهود. وما ذكر أول هذه الآية لا يليق حمله على أحوال اليهود كما علمت آنفاً ولو حمل ضمير {جاءوك} على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر. أما هذه الآية ففي أحوال المنافقين، وهذا مثل ما كان بعضهم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم {رَاعِنا} [البقرة: 104] تعلّموها من اليهود وهم يريدون التوجيه بالرعونة فأنزل الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم} [البقرة: 104] ولم يُرد منه نهي اليهود. ومعنى {يقولون في أنفسهم يقول بعضهم لبعض على نحو قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا عن أنفسكم} [النور: 61]. وقوله: {ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً} [النور: 12]، أي ظن بعضهم ببعض خيراً، أي يقول بعضهم لبعض. ويجوز أن يكون المراد ب {أنفسهم} مجامعهم كقوله تعالى: {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} [النساء: 63]، أي قل لهم خالياً بهم ستراً عليهم من الافتضاح. وتقدم في سورة النساء [63] و{لولا} للتحضيض، أي هلا يعذبنا الله بسبب كلامنا الذي نتناجى به من ذم النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، أي يقولون ما معناه لو كان محمد نبيئاً لعذبنا الله بما نقوله من السوء فيه ومن الذم وهو ما لخصه الله من قولهم بكلمهِ {لولا يعذبنا الله} فإن {لولا} للتحْضيض مستعملة كناية عن جحد نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم أي لو كان نبيئاً لغضب الله علينا فلعذبنا الآن بسبب قولنا له. وهذا خاطر من خواطر أهل الضلالة المتأصلة فيهم، وهي توهمهم أن شأن الله تعالى كشأن البشر في إسراع الانتقام والاهتزاز مما لا يرضاه ومن المعاندة. وفي الحديث: «لا أحد أصبر على أذىً يسمعه من الله، يدعون له نِدّاً وهو يرزقهم على أنهم لجحودهم بالبعث والجزاء يحسبون أن عقاب الله تعالى يظهر في الدنيا» وهذا من الغرور قال تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} [فصلت: 23]، ولذلك قال تعالى رداً على كلامهم {حسبهم جهنم} أي كافيهم من العذاب جهنم فإنه عذاب. وأصل {يصلونها} يصْلَون بها، فضمّن معنى يذوقونها أو يحسونها وقد تكرر هذا الاستعمال في القرآن. وقوله: {فبئس المصير} تفريع على الوعيد بشأن ذم جهنم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)} خطاب للمنافقين الذين يظهرون الإِيمان فعاملهم الله بما أظهروه وناداهم بوصف الذين آمنوا كما قال: {من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} [المائدة: 41] ومنه ما حكاه الله عن المشركين {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6] أي يأيها الذي نزل عليه الذكر بزعمه، ونبههم إلى تدارك حالهم بالإِقلاع عن آثار النفاق على عادة القرآن من تعقيب التخويف بالترغيب. فالجملة استئناف ابتدائي. ذلك أن المنافقين كانوا يعملون بعمل أهل الإِيمان إذا لَقُوا الذين آمنوا فإذا رجعوا إلى قومهم غلب عليهم الكفر فكانوا في بعض أحوالهم مقاربين الإِيمان بسبب مخالطتهم للمؤمنين. ولذلك ضرب الله لهم مثلاً بالنور في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17] ثم قوله: {كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} [البقرة: 20]. وهذا هو المناسب لقوله تعالى: {فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول}، ويكون قوله: {وتناجوا بالبر والتقوى} تنبيهاً على ما يجب عليهم إن كانوا متناجين لا محالة. ويجوز أن تكون خطاباً للمؤمنين الخلّص بأنْ وجه الله الخطاب إليهم تعليماً لهم بما يحسن من التناجي وما يقبح منه بمناسبة ذم تناجي المنافقين فلذلك ابتدئ بالنهي عن مثل تناجي المنافقين وإن كان لا يصدر مثله من المؤمنين تعريضاً بالمنافقين، مثل قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} [آل عمران: 156]، ويكون المقصود من الكلام هو قوله: {وتناجوا بالبر والتقوى} تعليماً للمؤمنين. والتقييد ب {إذا تناجيتم} يشير إلى أنه لا ينبغي التناجي مطلقاً ولكنهم لما اعتادوا التناجي حُذروا من غوائله، وإلا فإن التقييد مستغنى عنه بقوله: «لا تتناجوا بالإِثم والعدوان». وهذا مثل ما وقع في حديث النهي عن الجلوس في الطرقات من قوله صلى الله عليه وسلم «فإن كنتم فاعلين لا محالة فاحفظوا حَق الطريق». وقرأ الجمهور {فلا تتناجوا} بصيغة التفاعل. وقرأه رويس عن يعقوب وحده {فلا تنتجُوا} بوزن تَنْتَهُوا. والأمر من قوله: {وتناجوا بالبر} مستعمل في الإِباحة كما اقتضاه قوله تعالى: {إذا تناجيتم}. والإِثم والعدوان ومعصية الرسول تقدمت. وأما البرّ فهو ضد الإِثم والعدوان وهو يعم أفعال الخير المأمور بها في الدين. و {التقوى}: الامتثال، وتقدمت في قوله تعالى: {هدى للمتقين} في سورة [البقرة: 2]. وفي قوله: الذي إليه تحشرون} تذكير بيوم الجزاء. فالمعنى: الذي إليه تحشرون فيجازيكم.
{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} تسلية للمؤمنين وتأنيس لنفوسهم يزال به ما يلحقهم من الحزن لمشاهدة نجوى المنافقين لاختلاف مذاهب نفوسهم إذا رأوا المتناجين في عديد الظنون والتخوفات كما تقدم. فالجملة استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة النهي عن النجوى، على أنها قد تكون تعليلاً لتأكيد النهي عن النجوى. والتعريف في {النجوى} تعريف العهد لا محالة. أي نجوى المنافقين الذين يتناجون بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم. والحصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة و{من} ابتدائية، أي قصر النجوى على الكون من الشيطان، أي جائية لأن الأغراض التي يتناجون فيها من أكبر ما يوسوس الشيطان لأهل الضلالة بأن يفعلوه ليحزن الذين آمنوا بما يتطرقهم من خواطر الشر بالنجوى. وهذه العلة ليست قيداً في الحصر فإن للشيطان عللاً أخرى مثل إلقاء المتناجين في الضلالة، والاستعانة بهم على إلقاء الفتنة، وغير ذلك من الأغراض الشيطانية. وقد خصت هذه العلة بالذكر لأن المقصود تسلية المؤمنين وتصبرهم على أذى المنافقين ولذلك عقب بقوله: {وليس بضارهم شيئاً} ليطمئن المؤمنون بحفظ الله إياهم من ضر الشيطان. وهذا نحو من قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42] وقرأ نافع وحده {ليُحزن} بضم الياء وكسر الزاي فيكون {الذين آمنوا} مفعولاً. وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي مضارع حزم فيكون {الذين آمنوا} فاعلاً وهما لغتان. وجملة {وليس بضارهم} الخ معترضة. وضمير الرفع المستتر في قوله: {بضارهم} عائد إلى {الشيطان}. والمعنى: أن الشيطان لا يضرّ المؤمنين بالنجوى أكثر من أنه يحزنهم. فهذا كقوله تعالى: {لن يضروكم إلى أذى} [آل عمران: 111] أو عائد إلى النجوى بتأويله بالتناجي، أي ليس التناجي بضارّ المؤمنين لأن أكثره ناشئ عن إيهام حصول ما يتقونه في الغزوات. وعلى كلا التقديرين فالاستثناء بقوله: {إلا بإذن الله} استثناء من أحوال والباء للسببية، أي إلا في حال أن يكون الله قدّر شيئاً من المضرة من هزيمة أو قتل. والمراد بالإِذن أمر التكوين. وانتصب {شيئاً} على المفعول المطلق، أي شيئاً من الضر. ووقوع {شيئاً} وهو ذكره في سياق النفي يفيد عموم نفي كل ضرّ من الشيطان، أي انتفى كل شيء من ضر الشيطان عن المؤمنين، فيشمل ضر النجوى وضر غيرها، والاستثناء في قوله تعالى: {إلا بإذن الله} من عموم {شيئاً} الواقع في سياق النفي، أي لا ضراً ملابساً لإِذن الله في أن يسلط عليهم الشيطان ضره فيه، أي ضر وسوسته. واستعير الإِذن لما جعله الله في أصل الخلقة من تأثر النفوس بما يسوّل إليها. وهو معنى قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42] فإذا خلى الله بين الوسوسة وبين العبد يكون اقتراب العبد من المعاصي الظاهرة والباطنة في كل حالة يبتعد فيها المؤمن عن مراقبة الأمر والنهي الشرعيين. وهذا الضر هو المعبر عنه بالسلطان في قوله تعالى في شأن الشيطان {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتّبعك من الغاوين} أي فلك عليه سلطان. وهذه التصاريف الإلهية جارية على وفق حكمة الله تعالى وما يعلمه من أحوال عباده وسرائرهم وهو يعلم السر وأخفى. ولهذا ذيل بقوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} لأنهم إذا توكلوا على الله توكلاً حقاً بأن استفرغوا وسعهم في التحرز من كيد الشيطان واستعانوا بالله على تيسير ذلك لهم فإن الله يحفظهم من كيد الشيطان قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3]. ويجوز أن يكون عموم {شيئاً} مراداً به الخصوص، أي ليس بضارّهم شيئاً مما يوهمه تناجي المنافقين من هزيمة أو قتل إلا بتقدير الله حصول هزيمة أو قتل. والمعنى: أن التناجي يوهم الذين آمنوا ما ليس واقعاً فأعلمهم الله أن لا يحزنوا بالنجوى لأن الأمور تجري على ما قدره الله في نفس الآمر حتى تأتيهم الأخبار الصادقة. وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} للاهتمام بمدلول هذا المتعلق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} فصل بين آيات الأحكام المتعلقة بالنجوى بهذه الآية مراعاة لاتحاد الموضوع بين مضمون هذه الآية ومضمون التي بعدها في أنهما يجمعهما غرض التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتلك المراعاة أولى من مراعاة اتحاد سياق الأحكام. ففي هذه الآية أدب في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم والآية التي بعدها تتعلق بالأدب في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخرت تلك عن آيات النجوى العامة إيذاناً بفضلها دون النجوى التي تضمنتها الآيات السابقة، فاتحاد الجنس في النجوى هو مسوغ الانتقال من النوع الأول إلى النوع الثاني، والإِيماءُ إلى تميزها بالفضل هو الذي اقتضى الفصل بين النوعين بآية أدب المجلس النبوي. وأيضاً قد كان للمنافقين نية مكر في قضية المجلس كما كان لهم نية مكر في النجوى، وهذا مما أنشأ مناسبة الانتقال من الكلام على النجوى إلى ذكر التفسح في المجلس النبوي الشريف. روي عن مقاتل أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصُفّة، وكان في المكان ضيق في يوم الجمعة فجاء ناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شَماس قد سُبقوا في المجلس فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يفسح لهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر فقال لمن حوله: قم يا فلان بعَدد الواقفين من أهل بدر فشقّ ذلك على الذين أقيموا، وغمز المنافقون وقالوا: ما أُنْصِف هؤلاء، وقد أحبّوا القرب من نبيئهم فسَبَقوا إلى مجلسه فأنزل الله هذه الآية تطييباً لخاطر الذين أقيموا، وتعليماً للأمة بواجب رعي فضيلة أصحاب الفضيلة منها، وواجببِ الاعتراف بمزية أهل المزايا، قال الله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} [النساء: 32]، وقال: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى} [الحديد: 10]. والخطاب ب {يأيها الذين آمنوا} خطاب لجميع المؤمنين يعم من حضروا المجلس الذي وقعت فيه حادثة سبب النزول وغيرَهم ممن عسى أن يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وابتدئت الآية بالأمر بالتفسح لأن إقامة الذين أقيموا إنما كانت لطلب التفسيح فإناطة الحكم إيماء إلى علة الحكم. والتفسح: التوسع وهو تفعل من فسح له بفتح السين مخففة إذا أوجد له فُسحة في مكان، وفسُح المكان من باب كرُم إذا صار فسيحاً. ومادة التفعل هنا للتكلف، أي يكلف أن يجعل فسحة في المكان وذلك بمضايقة مع الجُلاّس. وتعريف {المجلس} يجوز أن يكون تعريف العهد، وهو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أي إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لكم ذلك لأن أمره لا يكون إلا لمراعاة حق راجح على غيره والمجلس مكان الجلوس. وكان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بمسجده والأكثر أن يكون جلوسه المكان المسمّى بالروضة وهو ما بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته. ويجوز أن يكون تعريف {المجلس} تعريف الجنس. وقوله: {يفسح الله لكم} مجزوم في جواب قوله: {فافسحوا}، وهو وعد بالجزاء على الامتثال لأمر التفسح من جنس الفعل إذ جعلت توسعة الله على الممتثل جزاءً على امتثاله الذي هو إفساحه لغيره فضمير {لكم} عائد على {الذين آمنوا} باعتبار أن الذين يفسحون هم من جملة المؤمنين لأن الحكم مشاع بين جميع الأمة وإنما الجزاء للذين تعلق بهم الأمر تعلقاً إلزامياً. وحذف متعلق {يفسح الله لكم} ليعم كل ما يتطلب الناس الإِفساح فيه بحقيقته ومجازه في الدنيا والآخرة من مكان ورزق أو جنة عرضها السماوات والأرض على حسب النيات، وتقديرُه الجزاء موكول إلى إرادة الله تعالى. وحذف فاعل القول لظهوره، أي إذا قال لكم الرسول: تفسحوا فافسحوا، فإن الله يثيبكم على ذلك. فالآية لا تدلّ إلاّ على الأمر بالتفسح إذا أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يستفاد منها أن تفسح المسلمين بعضهم لبعض في المجالس محمود مأمور به وجوباً أو ندباً لأنه من المكارمة والإِرفاق. فهو من مكملات واجب التحابّ بين المسلمين وإن كان فيه كلفة على صاحب البقعة يُضايقه فيها غيره. فهي كلفة غير معتبرة إذا قوبلت بمصلحة التحابّ وفوائده، وذلك ما لم يفض إلى شدة مضايقة ومضرة أو إلى تفويت مصلحة من سماع أو نحوه مثل مجالس العلم والحديث وصفوففِ الصلاة. وذلك قياس على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في أنه مجلس خير. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أحبكم إليّ ألْيَنُكم مناكب في الصلاة " قال مالك: ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابرَ الدهر. يريد أن هذا الحكم وإن نزل في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فهو شامل لمجالس المسلمين من مجالس الخير لأن هذا أدب ومؤاساة، فليس فيه قرينة الخصوصية بالمجالس النبوية، وأراد مالك ب«نحوها» كل مجلس فيه أمر مهمّ في شؤون الدين فمن حق المسلمين أن يحرصوا على إعانة بعضهم بعضاً على حضوره. وهذا قياس على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وعلته هي التعاون على المصالح. وأفهم لفظ التفسح أنه تجنب للمضايقة والمراصة بحيث يفوت المقصود من حضور ذلك المجلس أو يحصل ألم للجالسين. وقد أرخص مالك في التخلف عن دعوة الوليمة إذا كثر الزحام فيها. وقرأ الجمهور {في المجلس} وقرأه عاصم بصيغة الجمع {في المجالس} وعلى كلتا القراءتين يجوز كون اللام للعهد وكونها للجنس وأن يكون المقصود مجالس النبي صلى الله عليه وسلم كلما تكررت أو ما يشمل جميع مجالس المسلمين، وعلى كلتا القراءتين يصح أن يكون الأمر في قوله تعالى: {فافسحوا} للوجوب أو للندب. وقوله: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} الآية عطف على {إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس}. و {انشزوا} أمر من نَشَز إذا نهض من مكانه يقال: نَشُزَ يَنشِزُ من باب قَعد وضرَب إذا ارتفع لأن النهوض ارتفاع من المكان الذي استقرّ فيه ومنه نشوز المرأة من زوجها مجازاً عن بعدها عن مضجعها. والنشوز: أخص من التفسيح من وجه فهو من عطف الأخص: من وجهٍ على الأعم منه للاهتمام بالمعطوف لأن القيام من المجلس أقوى من التفسيح من قعود. فذكر النشوز لئلا يتوهم وأن التفسيح المأمور به تفسيح من قعود لا سيما وقد كان سبب النزول بنشوز، وهو المقصود من نزول الآية على ذلك القول. ومن المفسرين من فسر النشوز بمطلق القيام من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان لأجل التفسيح أو لغير ذلك مما يؤمر بالقيام لأجله. روي عن ابن عباس وقتادة والحسن «إذا قيل انشزوا إلى الخير وإلى الصلاة فانشزوا». وقال ابن زيد: إذا قيل انشزوا عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفعوا فإن للنبيء صلى الله عليه وسلم حوائج، وكانوا إذا كانوا في بيته أحبّ كل واحد منهم أن يكون آخر عهده برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب النزول لا يخصص العام ولا يقيد المطلق. وهذا الحكم إذا عسر التفسيح واشتد الزحام والتراصّ فإن لأصحاب المقاعد الحقّ المستقر في أن يستمرّوا قاعدين لا يقام أحد لغيره وذلك إذا كان المقوّم لأجله أولى بالمكان من الذي أقيم له بسبب من أسباب الأوّلية كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة نفر لإِعطاء مقاعدهم للبدريين. ومنه أولوية طلبة العلم بمجالس الدرس، وأولوية الناس في مقاعد المساجد بالسبق، ونحو ذلك، فإن لم يكن أحد أولى من غيره فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقيم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه. وللرجل أن يرسل إلى المسجد ببساطه أو طنفسته أو سجادته لتبسط له في مكان من المسجد حتى يأتي فيجلس عليها فإن ذلك حوز لذلك المكان في ذلك الوقت. وكان ابن سيرين يرسل غلامه إلى المسجد يوم الجمعة فيجلس له فيه فإذا جاء ابن سرين قام الغلام له منه. وفي «الموطأ» عن مالك بن أبي عامر قال: كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي الطنفسة كلها ظِلُّ الجدار خرج عمر بن الخطاب فصلّى الجمعة. فالطنفسة ونحوها حوز المكان لصاحب البساط. فيجوز لأحد أن يأمر أحداً يبكر إلى المسجد فيأخذ مكاناً يقعد فيه حتى إذا جاء الذي أرسل ترك له البقعة لأن ذلك من قبيل النيابة في حوز الحق. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {انشزوا فانشزوا} بضم الشين فيهما. وقرأه الباقون بكسر الشين. وهما لغتان في مضارع نشز. وقوله: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} جواب الأمر في قوله: {فانشزوا} فقد أجمع القراء على جزم فعل {يرفعْ} فهو جواب الأمر بهذا. وعد بالجزاء على الامتثال للأمر الشرعي فيما فيه أمر أو لما يقتضي الأمر من علّة يقاس بها على المأمور به أمثالُه مما فيه علة الحكم كما تقدم في قوله تعالى: {فافسحوا}. ولما كان النشوز ارتفاعاً عن المكان الذي كان به كان جزاؤه من جنسه. وتنكير {درجات} للإِشارة إلى أنواعها من درجات الدنيا ودرجات الآخرة. وضمير {منكم} خطاب للذين نودوا ب {يأيها الذين آمنوا}. و (من) تبعيضية، أي يرفع الله درجات الذين امتثلوا. وقرينة هذا التقدير هي جعل الفعل جزاء للأمر فإن الجزاء مسبب عما رتب عليه بقوله: {منكم} صفة للذين آمنوا. أي الذين آمنوا من المؤمنين والتغايُر بين معنى الوصف ومعنى الموصوف بتغاير المقدَّر وإن كان لفظ الوصف ولفظ الموصوف مترادفين في الظاهر. فآل الكلام إلى تقدير: يرفع الله الذين استجابوا للأمر بالنشوز إذا كانوا من المؤمنين، أي دون من يضمه المجلس من المنافقين. فكان مقتضى الظاهر أن يقال: يرفع الله الناشزين منكم فاستحضروا بالموصول بصلة الإِيمان لما تؤذن به الصلة من الإِيماء إلى علة رفع الدرجات لأجل امتثالهم أمرَ القائل {انشزوا} وهو الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان لإِيمانهم وأن ذلك الامتثال من إيمانهم ليس لنفاق أو لصاحبه امتعاض. وعطف «الذين أوتوا العلم منهم» عطف الخاص على العام لأن غشيان مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو لطلب العلم من مواعظه وتعليمه، أي والذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون، لأن الذين أوتوا العلم قد يكون الأمر لأحد بالقيام من المجلس لأجلهم، أي لأجل إجلاسهم، وذلك رفع لدرجاتهم في الدنيا، ولأنهم إذا تمكنوا من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم كان تمكنهم أجمع للفهم وأنفى للملل، وذلك أدعى لإطالتهم الجلوس وازديادهم التلقي وتوفير مستنبطات أفهامهم فيما يلقى إليهم من العلم، فإقامة الجالسين في المجلس لأجل إجلاس الذين أوتوا العلم من رفع درجاتهم في الدنيا. ولعل البدريين الذين نزلت الآية بسبب قصتهم كانوا من الصحابة الذين أوتوا العلم. ويجوز أن بعضاً من الذين أمروا بالقيام كان من أهل العلم فأقيم لأجل رجحان فضيلة البدريين عليه، فيكون في الوعد للذي أقيم من مكانه برفع الدرجات استئناس له بأن الله رافع درجته. هذا تأويل نظم الآية الذي اقتضاه قوة إيجازه. وقد ذهب المفسرون في الإفصاح عن استفادة المعنى من هذا النظم البديع مذاهب كثيرة وما سلكناه أوضح منها. وانتصب {درجات}، على أنه ظرف مكان يتعلق ب {يرفع} أي: يرفع الله الذين آمنوا رفعاً كائناً في درجات. ويجوز أن يكون نائباً عن المفعول المطلق ل {يرفع} لأنها درجات من الرفع، أي مرافع. والدرجات مستعارة للكرامة فإن الرفع في الآية رفعاً مجازياً، وهو التفضيل والكرامة وجيء للاستعارة بترشيحها بكون الرفع درجات. وهذا الترشيح هو أيضاً استعارة مثل الترشيح في قوله تعالى: {ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} [الرعد: 25] وهذا أحسن الترشيح. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى في سورة [الأنعام: 83] {نرفع درجات من نشاء.} وقال عبد الله بن مسعود وجماعة من أهل التفسير: إن قوله: والذين أوتوا العلم درجات} كلام مستأنف وتَم الكلام عند قوله: {منكم} قال ابن عطية: ونصب بفعل مُضمر ولعله يعني: نُصب {درجات} بفعل هو الخبر عن المبتدأ، والتقدير: جعلهم. وجملة {والله بما تعملون خبير} تذييل، أي الله عليم بأعمالكم ومختلف نياتكم من الامتثال كقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يُكلَمُ أحد في سبيل الله. والله أعلم بمن يكلَم في سبيله» الحديث.
|